آراء وأقلام

شركة اسنيم أمام مفترق طرق حاسم / د. يربان الحسين الخراشي

ثلاثة أحداث مفصلية خلال الشهر الجاري قد تتمخض عنها تطورات هامة في السوق العالمي لخامات الحديد، وتمثل تحديات جسام أمام شركة اسنيم عماد الاقتصاد الوطني، وشريان الحياة لمنطقة الشمال الموريتاني.

وعلى رأس الأحداث وأبرزها رفع أستراليا للراية البيضاء في الحرب التجارية مع الصين بعد موافقتها على نمط جديد للدفع للتجارة الفورية لخام الحديد، حيث أصبحت التسوية بالعملة الصينية اليوان، وفي موانئها إلى جانب النمط القديم حيث التسوية بالدولار الأمريكي، وهذا ما يعني أن صفقات خام الحديد الأسترالي مستقبلا ستتم على أرض صينية، وتخضع لقوانينها، كما يعني أن المصدرين الأستراليين سيتحملون جميع المخاطر التي تكتنف عملية نقل المادة الخام إلى الصين، ويعني أكثر اعترافا ضمنيا أستراليا رسميا بأن المركز العالمي لتجارة خامات الحديد أصبح في الصين، وأن الأخيرة باتت تملك موطئ قدم في عملية تسعير المادة الخام بل وأصبحت قاب قوسين أو أدني من تحقيق هدفها الذي الذي تطرقنا له في أكثر من مقال منذ مقالنا الأول أكتوبر 2017 تحت عنوان “الصين المتحكم الأول في أسعار خامات الحديد في أفق 2025”. وفي اعتقادنا على رأس أسباب دفع أستراليا إلى اليوان الصيني الاستعداد للأسوأ، ومنافسة شرسة قادمة في السوق، وكذلك التحوط من مخاطرعدم استقرار الدولار في ظل عدم اليقين إزاء مستقبل رفع الفائدة من الفيدرالي الأمريكي، بالإضافة إلى زيادة التكهنات حول وضعية الدولار، وفقدانه لمصداقيته نتيجة للإفراط في استخدام سلاح العقوبات المالية، وتراجع هيمنته على التجارة العالمية بعد تراجع مساهمة الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الناتج المحلي الإجمالي العالمي من حوالي 56% سنة 1945 إلى حوالي 24% سنة 2021.

أما الحدث الثاني فهو تأسيس الصين رسميا لمجموعة الموارد المعدنية الصينية برأسمال مسجل قدره 20 مليار يوان (حوالي 3 مليارات دولار)، ستتولى كافة الأنشطة المتعلقة باستيراد خامات الحديد مع السعي إلى خلق منصة لدمج الطلب الصيني المحلي على المادة الخام من أجل تحسين القدرة التفاوضية للصين عند التسعير، وكذلك الإشراف على الاستثمارات في المناجم الخارجية خاصة مناجم الغرب الإفريقي، ويتولى السيد ياولين (Yao Lin) رئاسة مجلس الإدارة،والتمثيل القانوني للشركة الجديدة، وهو سكرتير الحزب الشيوعي الصيني، ورئيس مجلس إدارة شركة الألمنيوم الصينية المحدودة (CHINALCO) سابقا، التي تعمل مع ريو تينتو الأسترالية في المربعين 3 و4 (تملك 39.95%) من منجم سيماندو الضخم للحديد جنوب غينيا. إن وجود مستورد واحد في الصين مستقبلا يستورد أكثر من مليار طن من خامات الحديد قد يكسبها الورقة الرابحة التي يعول عليها خلال تسعير المادة الخام، كما أن وجود مستثمر واحد صيني في المناجم خارجيا يوحي بدخول مرحلة جديدة عنوانها الصراع على الموارد المعدنية خاصة المعادن العمود الفقري للصناعة ( الحديد، النحاس، الألمنيوم إلخ)، ومعادن التحول الطاقوي (الليثيوم، الكوبالت، النيكل إلخ) المنشود عالميا، التي هي من صميم عمل المؤسسة الجديدة، وتعتبر موريتانيا واحة وقاعدة مستقبلية لها، مما يدق ناقوس الخطر بعودة الصراع بين القوى العظمى على الموارد الإفريقية خاصة موارد الصحراء الكبرى البكر، مما سيحول الصراع المكتوم إلى علني محسوس في المنطقة، وفي اعتقادي قد يعد هذا أحد أهم العوامل التي تفسر الاهتمام البالغ المتزايد لحلف شمال الأطلسي بموريتانيا، وسعيه الحثيث لتحويلها إلى رأس حربة في حربه على المصالح الصينية والروسية في شمال وغرب إفريقيا.

أما الحدت الأخير فيتعلق باقتراح رابطة صناعة الحديد والصلب الصينية لخطة “حجر الزاوية”، التي تستهدف تغييرهيكلي في مصادر تأمين خام الحديد للصين في غضون 10 إلى 15 عامًا، حيث كشفت مطلع الشهر الجاري بشكل رسمي عن محتوى المرحلة الأولى من الخطة التي تستهدف أن يصل بحلول 2025 إنتاج مناجم الصين من الخامات عالية التركيز، وحجم تدويرها السنوي للخردة، بالإضافة إلى حجم وارداتها من المناجم الخارجية التي تملك حقوق امتيازلاستغلالها إلى 370 مليون طن، و 300 مليون طن، و 220 مليون طن على التوالي، بزيادة قدرها 100 مليون طن، و 70 مليون طن، و 100 مليون طن على التوالي مقارنة بأرقام سنة 2020 .
هذه الخطة في نهاية المطاف ستمكن الصين من الاستغناء عن حوالي 300 مليون طن من الخامات المستوردة، وستنقل الصراع والمنافسة من صراع بينها والأربعة الكبار إلى صراع بين المصدرين الذين ستكون الصين من بين أبرزهم وإن بطريقة غير مباشرة، وهو ما قد يخلق تحديا ت كبيرة لشركة اسنيم في ظل فشل محاولات خفض التكلفة وإنتاج خامات عالية التركيز والجودة، مما قد يجعلها أمام خطر حقيقي إذا لم تنجح في كسب رهان تحدي التكيف مع المستقبل التنافسي الشرس للسوق العالمي لخامات الحديد، الذي باتت الشركات العملاقة تتحدث عنه في تقاريرها الرسمية.

إن كسب اليوان الصيني أرضا جديدة في أستراليا الأنجلوساكسونية، وقبلها في البرازيل، وجنوب إفريقا، وأوكرانيا يجعل من الحفاظ مستقبلا على حصة في سوق الصيني لخامات الحديد الأكبر عالميا مرهون بقبول التسوية بعملتها، وحسب مؤشرها، وهذا ما أدركه الأربعة الكبار وغيرهم. وإذا كان من يتحكم في تسعير النفط الخام يتحكم في تدفق الدم الذي يجري في شريان الصناعة العالمية، فإن من يتحكم في تسعير خام الحديد يتحكم في انتقال الغذاء عبر مسارات الصناعة العالمية المختلفة، وإذا كان لا جدال في أن الصين تعد الأبعد جغرافيا من موريتانيا، فإنه لاجدال أيضا بأنها الأقرب إلى مناجم ازويرات، وبيوت، وجيوب الموريتانيين. والوضعية الجديدة للسوق العالمي لخامات الحديد ستضاعف من أرباح أولئك الذين يجنون فارق السعر بين أسعار الصفقات طويلة الأجل في تجارة خام الحديد، وأسعار السوق الفورية في الموانئ الصينية. الوضعة التي قد تجعل شركة اسنيم، ومن ورائها موريتانيا أمام مفترق طرق حاسم، وعلينا السعي إلى ضمان مصالح بلادنا حتى لا تتحول إلى ضحية من ضحايا الصراع على الموارد وما أكثرهم.

د. يربان الحسين الخراشي

مقالات ذات صلة

إغلاق