ما أقدس الاستثناء حين يكون بلون الماء وعلى شكل الضوء .. وما أوجعه حين يهمل ذكره عمدًا أو سهوًا .. كما يحدث كثيرا في آية الشعراء .. الشعراء أولئك الذين يؤرخ لهم جل مؤرخي الأدب العربي الحديث بالسقوط عن صهوات الإبداع حتى تسمي السقوط بعصر الانحطاط .. وكأن لم يسمعوا كسلا منهم أو بعدا لتلك الناسكة التي تبتلت في محراب الحرف وتزينت بكحل الدواة فأشرقت في زمن الانطفاء .. فكانت الاستثناء الذي غاب أو غُيِّبَ .. أو هما معا من تأريخ الأدب العربي الحديث !وفي ذلك الاستثناء المقدس للأدب المتسمي موريتانيا أو شنقيط أو أرض المنارة والرباط .. لم تك تيرس نشازا بل كانت استثناء الاستثناء جمالاً يتشكل في إشراقات شمس تشرين من بين تراقص الغيوم على السهول المتشحة خضرة والعابقة بشذى أزكى الأزهار البرية والمتدللة في كنف أطول الرواسي (كدية الجل ) …
وبهاءً يسافر في تلاوات الفجر .. في غناء الرعاة على أوتار مواشيهم وهي تمتشق عيون المراعي …
وتفردًا وليل الأنس يترسم من أهازيج الصبايا الملحنات ما تَرْتَجِلُ قرائح فتيان الحي من باذخ القريض بكل قرع لأناملهن للطبل المقتفي أثر البدور …
اعذرني أيها القارئ إن أطلت في التقديم فالحديث عن أمس تيرس ممتع وسارق قدر إغواء وإدهاش بوح شعرائها .. شعراؤها الذين لم يبتغوا غير العصور الذهبية للشعر أساسا للانطلاق في رحلة الابداع .. فخاضوا غمار كل أغراضها وعارضوا فطالحة شعرائها .. فنجد العربي الذي أخره الله ( امحمد ولد الطلبة اليعقوبي ( 1774م _ 1856م ) ) يعارض جيمية الشماخ ويتمنى أن يجلس معه في الجنة بين جماعة من الصحابة ليحكموا بينهما …
ومن معارضته :تطاول ليلُ النازعِ المبتهجِأما لضياء الصبح من متبلجِولا لظلام الليل من متزحزحِوليس لنجمٍ من ذهابٍ ولا مجِيومن قصيدة الشماخ:ألا ناديا إظعان ليلى تعرِّجِفقد هجْنَ شوقا ليته لم يهيَّجِأقولُ وأهلي بالجنابِ وأهلهابنجدين: لا تبعد نوى أمِّ حشرجِولك أيها القارئ أترك التعليق …كما أتركه لك في معارضته لميمية حُميد بن ثور إذ يقول :تأوبهُ طيفُ الخيالِ بمريمافباتَ معنًّى مستجنًّا متيماتأوبه بعدَ الهجوعِ فهاضَهُفأبدى من التهيامِ ما كانَ جمجمالطاف بها حتى إذا النفسُ اجهشتْوابدتْ بناناً لي خضيباً ومِعْصماتولى كأنَّ اللمحَ بالطرفِ زورُهُوكان وداعاً منه إنْ هو سلَّماومن قصيدة حميد بن ثور :وما الحزْمُ إلا مِرَّةُ النفْسِ تُقْتَنى … لشدَّتِه من قبلِ أن تتحكما
وما العَجْزُ إلا أن تَلين لمسّها .. فَتَضْجرَ من قبلِ الرخاء وتسأما
وليس الغِنا إلا اعتزازَ قناعةٍ … نُجِلُّ أخاها أن يُذَلَّ ويُشتَما
وما الفقْرُ إلا أن يُرى المرءُ ضارعا … لنَكبةِ دهرٍ قدْ ألمَّ فَيقْحَماوإلى جانب ابن الطلبة بزغ شعراء آخرون كحادي نوقه السابق وأعني النابغة التيرسي الذي نبغ في الشعر بعد عمر من الأمية لبخيري ولد أج الغزاري …
ومن شعره قصيدته التي قالها في (معيلك لجواد) المكان الذي أقاله فيه ولد الطلب من رعي نوقه بعد أن أحس منه موهبة شعرية طافحة .. وهي من بداياته :قِف بربعٍ لدى ” المُعَيْلِقِ ” بالِ / لعبتْ فيه لاعباتُ الشمالِ
لعبتْ فيه بكرةً وعشِيَّا / وعفا دمنتيه مر الليالي
____
_____هل ترى حضرة تدرس وحيا / همها العلم واكتساب المعالي
قف بها منشدا وعيناك غربا / جدول تهرقان فيض الزلالِ
رب بيضاء من ذوات جَمَالٍ / صنت نفسي عن وصلها باحتيالِ
بخلتْ بالحديث إلا قليلا / وبغير الحديث أي ابتخالِ
تستبي القلب وهي ذات عيال / إن لله أمهات العيالِومن طرائفه أيضا مع ولد الطلبة .. لقياهما ذات مرة إذ أنشد ولد الطلبة في جمل له يدعى ” الفرو ” :حُقَّ لِلْفَرْوِ أنْ يحنَّ ويبكي / ذاق ما ذقت من زعاق الفراقِ
همَّ بالنوق واهتممتُ بِسُعدى / فكلانا لجِنْسهِ ذو اشتياقِ
إن يوم الفراق أنحل جسمي / أنحل الله جسم يوم الفراقِفأكمل لبخيري :لو وجدنا إلى الفراق سبيلا / لأَذَقْنَا الفراق طعم الفراقِفنظر إليه امحمد مندهشا منه وقال ممازحا الحمد لله على أنك لست ابن عمي .. فكانت تلك شهادة ولد الطلبة بشاعريته…
وهكذا ظل الشعر التيرسي يركب في الإبداع طبقا عن طبق حتى وصل في التفردا والتميز ذروة التمام …و”لكل شيئ إذا ما تم نقصان ” .. وما أقسى ذاك النقصان حين يسير بنا لفقد أندلس الشعر الشنقيطي بعدما اختار ضرع السماء الجفاف لتتشقق شفاه الأرض عطشا .. فتخفت ترانيم الرعاة وترتحل تلاوات البداة .. وتظل بعدما سر زمانُ ولد الطلبة ورهطه الأزمانُ تسيء ،وتسيء حتى تكاد تيرس تصير بيداء الحطيئة .. فيسمح الله للمحتل الفرنسي في منتصف القرن المنصرم باكتشاف خامات الحديد ب”كدية الجل ” .. فتبدأ الحياة تدب فيها من جديد .. ولكن بنمط غير الذي كان .. فلا يعود الشعر بعودة الحياة إلى ازويرات
وأنى له العودة وليس له أن يساعد في قيادة قطار أو شاحنة أو تبديل قطعة غيار لأي منهما ولا لأي آلة أخرى سواء تساعد في استخراج خام الحديد أو في نقله لانواذيبو وسواء كانت من الفولاذ الصلب أو من اللحم والدم …
ثم يُرفع _ملء استعاب المدينة_ شعار لا للأشعار …
فترى ذا سن اللبن يحدث عن أحلامه أو أحلام أهله بالهندسة ، وترى المراهق يرى يوم الروع دون التوجه لشعبة الآداب .. وترى كل الإدارات بكل الحواضن التعليمية تعتمد التوجيه للأدب عقوبة لمن أبطأ به عمله .. فتصمت أنت عن تسميته المزبلة بدل قسم الأدب لأجل تلك القلة التي دأبت على كسر كلمة المجتمع والتوجه بعلاماتها الجيدة إليه من تلقائها وهي مُتَلَبَّسة بشيء من عنفوان الشعر يجعلها ذلك الاستنثاء الذي يذكرك بزمن الاستثناءات الجميلة …
ومع ذلك تظل في ازويرات ترى ثم ترى كلما لن تستيطع احتماله …
كانتظارك لليوم الذي تتضوع فيه إحدى أماسيها شعرا فيؤرخ لها بأنها أول أمسية تقام بازويرات بعد نشأتها الحديثة …
كأن يكون أغلب مَنْ يدرسون الفصحى وآدابها بمؤسساتها التعليمية من الدخلاء الذين لم يمروا بقسم الدراسات العربية بالجامعة ولو من الخارج .. مَنْ يُنَفِّرُون من الشعر أكثر مما يُرَغِّبُون فيه لانعدام العلاقة بينهم وبينه …
كأن تسمع عن المبالغ التي تصرف على الثقافة وعن استفادة النوادي والجمعيات الثقافية ومسيري دار الشباب منها .. ثم تجد الشعر يتذيل اهتماماتهم إن وجد أصلا فيها … ثم تبدأ تبحث في تلك المذكورات فيبطل العجب بمعرفتك أن انعدام المؤهلات الثقافية جنب انعدام المؤهلات العلمية وربما الشبابية لدى أغلب القائمين عليها هو السبب …
كأن لا تفكر بطرق باب أي مسؤول حكومي لتناقشه في هذه الكارثة حتى لا يقول لك لدينا تعليمات من الجهات العليا للبلد بمحاربة الأدب فهو أساس تخلفنا وسر عدم نهضتنا !
كأن تحاول البحث عن ظهر من أبنائها ( ازويرات ) في اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين أو في الشعراء الذين يتصدرون المشهد أو في أصنامهم فلا تجد !
كأن تبحث عن جيل من الشعراء سابق عليك بها فلا تجد!
كأن تبحث عن جيلك من الشعراء بها وإن لم تربطك ببعضهم سابق صداقة لتدارسهم مشروعا لتحريك هذا الواقع الراكد .. فيرد عليك سيد أحمد ولد الحوناني “لقد توقفت عن كتابة الشعر وأنا الآن مجرد
متذوق ” فتحس أن نصائح السيد الرئيس هي التي أعادته من باب البوح قبل الولوج .. ورمته هناك بمدينة القوارب …
ويرد عليك إبراهيم ولد المولود “فكرة جميلة” بشكل يفتقد للاندفاع وكأن صاحبه لديه موانع أكثر من اغترابه في العاصمة السياسية تمنعه من التحمس لهكذا مشروع …
ويرد عليك أحمد علي السدومي ” جميل .. لكن عليك أن توسع لضم عدد أكبر ولو لم يكونوا شعراء .. ثم إني مغترب بالعاصمة الاقتصادية ؛ ولكن ذلك لن يمنعني من أن أكون إلى جانبك ”
ثم تفقد أثر زليخة حامد .. كما فقد عدنان المنير أثر الشعر …
وتمتنع عن طرح الفكرة على شاعر كنت تظن أنه من ازويرات بعد اكتشافك من خلال صفحته على الفيس بوك أنه من مدينة حبيبة أخرى …
وأنت تتفقد هذه الأسماء وما مارسه الزمن على مواهبهم الشعرية .. لا بد أن تنوه أولئك الإخوة الصغار الرائعين الذين بدؤوا يلجون عالم الشعر أن الطريق شاق .. ولكن عليهم أن يؤمنوا أن أحلامهم ليست للقتل !
وأنت تتفقد هذه الأسماء تتذكر من باب ” .. لا تبخسوا الناس أشياءهم .. ” ذلك الجيل الجميل من الأساتذة الذين مروا بثانوية ازويرات ذات فلتفة من فلتات هذه السنين العجاف ..
فلا تملك إلا أن تقول ولو بهذا الأسلوب المتواضع على هذه الصفحة المتواضعة شكرا الاستاذ سيدي محمد ولد بيات شكرا أيها المعطاء على كل تلك التوجيهات والتحفيزات لأبناء من هذه المدينة على كتابة الشعر .. شكرا الأستاذ الرباني .. شكرا الأستاذ أج ..
شكرا الأستاذ مختار عزيز .. وشكرا لكل من مر من هنا وقدم!
شكرا .. فحتى لو لم أكن من بين طلابكم فقد وصلني صدى عطائكم …
وعلى سبيل الشكر لا يمكن أن تنسى جمعية بناء زمور التي وإن لم تغير من واقع الشعر بازويرات بالقدر الذي ينتظر منها فقد حاولت .. وظل إعرابها عن رغبتها في ذلك ماثلا للعيان .وأنت تسطر هذه الحروف تكون قد عريت على هذا العالم الأزرق جرحا نازفا بقلبك وبحرفك قبل واقع مدينتك .. جرحا لابد _بإذن الله _ بك ومن معك من جيلك سيندمل أو بمن سيأتي بعدكم .محمد محمود الساسي